كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وبه يعدلون}.. فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم، تحقيقًا للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق.. فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس.
ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرَّف! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله. يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه. ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه. ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة. ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه. ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه... وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق.. وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به..
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس! صلبة لا تقبل التمييع! والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة.. وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودًا لا تكل، وحملات لا تنقطع، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته، كل الوسائل وكل الأجهزة، وكل التجارب.. هم يسحقون سحقًا وحشيًا كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرضَ وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، ويباركون الفجور والفاحشة ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه! وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية، المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع، ورفع شعاراتها، أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها! وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثًا تاريخيًا مضى ولا تمكن إعادته، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين، ثم ليقولوا لهم- في ظل هذا التخدير-: إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة، لا شريعة ونظامًا، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم! هذا وإلا فإن على هذا الدين أن يتطور فيصبح محكومًا بواقع البشر، يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين. وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم- الذي كان إسلاميًا- نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين، لتحل محل ذلك الدين القديم! وينزّلون لها قرآنًا يتلى ويدرس، ليحل محل ذلك القرآن القديم! وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات- كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين- كوسيلة أخيرة، حتى لا يجد هذا الدين قلوبًا تصلح للهداية به؛ فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين!
إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به.
المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج، وجميع الوسائل بلا حساب؛ والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية؛ والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية؛ والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يومًا واحدًا لولا هذه الكفالة العالمية!
ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية. والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق- على قلة العدد وضعف العدة- وما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية.. والله غالب على أمره.
{والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}..
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته.. هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله.. إنهم لا يتصورون أبدًا أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون. ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين.. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين!.. إنهم يتولى بعضهم بعضًا ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى!.. إنها سنة الله مع المكذبين.. يرخى لهم العنان، ويملى لهم في العصيان والطغيان، استدراجًا لهم في طريق الهلكة، وإمعانًا في الكيد لهم والتدبير. ومن الذي يكيد؟ إنه الجبار ذو القوة المتين! ولكنهم غافلون! والعاقبة للمتقين. الذين يهدون بالحق وبه يعدلون..
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قومًا من المكذبين بآيات الله في مكة- والنص القرآني دائمًا أبعد مدى من المناسبة الخاصة- وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة- التي يسميها أمة وفق المصلطح الإسلامي- بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين.. ثم كان يدعوهم- بعد هذا التهديد- إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم. فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين.. كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول، وهم غافلون:
{أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون}؟.
إن القرآن يهزهم من غفوتهم، ويوقظهم من غفلتهم، ويستنقذ- من تحت الركام- فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم.. إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة.. إنه لا يوجه إليهم جدلًا ذهنيًا باردًا؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها:
{أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين}..
لقد كانوا يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير: إن محمدًا به جنة.
وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب، غير المعهود في أساليب البشر العاديين!
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر.. وقصة الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وعمرو بن هشام- أبي جهل- في الاستماع لهذا القرآن خلسة، ليالي ثلاثًا، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة.. وكذلك قصة عتبة بن ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي صلى الله عليه وسلم وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة.. ومثلها قصة تأمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وما معه من القرآن؛ وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود: إنه سحر يؤثر.. كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر؛ إنما هم كانوا يستكبرون عنه؛ ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله.. وتهدد كل طاغوت بشري على العموم!
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود؛ كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم، عن الصلة بين التنبؤ والجنون! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون؛ ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور!. كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد، إنما يقوله عن جنة به؛ وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول، لأنه مجنون!
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه. فلم يعرفوا عنه من قبل خللًا عن السواء؛ وشهدوا له بالأمانة والصدق، كما شهدوا له بالحكمة؛ وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور. واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجرًا فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه!
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله، المكشوف لهم أمره كله.. أفهذا به جنة؟.. أفهذا قول مجنون وفعل مجنون؟.. كلا:
{ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين}..
لا اختلاط في عقله ولا في قوله. إنما هو منذر مفصح مبين. لا يلتبس قوله بقول المجانين. ولا تشتبه حاله بحال المجانين.
ثم..
{أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}..
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب.
والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم، يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام، وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه، والإبداع الذي يشهد به، والإعجاز الذي يدل على البارئ الواحد القدير.. والنظر إلى ما خلق الله من شيء- وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء- يدهش القلب ويحير الفكر، ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله، وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور.
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به؛ ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة؟ لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى؟ لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها؟ ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد، الصادر عن الإرادة الواحدة، التي يجري بها قدر مطرد مقصود؟
إن الجسم الحي. لا بل الخلية الحية. لمعجزة لا ينقضي منها العجب.. وجودها. تركيبها. تصرفها. عمليات التحول الدائمة التي تتم فيها كل لحظة مع محافظتها على وجودها؛ وتضمنها كذلك لوسيلة التجدد في أنسال منها؛ ومعرفتها لوظيفتها ولامتداد هذه الوظيفة في أنسالها!.. فمن ذا الذي ينظر إلى هذه الخلية الواحدة، ثم يطمئن عقله- بل فطرته وضميره- إلى أن هذا الكون بلا إله، أو أن هناك آلهة مع الله؟
إن امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهدًا يهتف لكل قلب وكل عقل بتدبير الخالق الواحد المدبر.. وإلا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والأنثى دائمًا في نسلها بالمقادير التي يتم بها هذا التزاوج؟ لماذا لا يأتي زمن على الحياة تنسل ذكورًا فقط أو إناثًا فقط.. ولو حدث هذا لا نقطع النسل عند هذا الجيل.. فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائمًا في الأجيال جميعًا؟
إن التوازن ملحوظ في ملكوت السماوات والأرض جميعًا- لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها- إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء.. ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائمًا لحظة! فمن الذي يمسك بعجله التوازن الكبرى في السماوات والأرض جميعًا؟
وعرب الجزيرة الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ما كانوا يدركون بعلومهم مدى هذا التوازن والتناسق في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء.. ولكن الفطرة الإنسانية بذاتها تلتقي مع هذا الكون في أعماقها؛ وتتجاوب معه بلغة غير منطوقة إلا في هذه الأعماق. ويكفي أن ينظر الإنسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة إلى هذا الكون حتى يتلقى إيقاعاته وإيحاءاته تلقيًا موحيًا هاديًا.
ولقد اهتدى الإنسان بفطرته- وهو يتلقى إيقاعات هذا الوجود في حسه- إلى أن له إلهًا. ولم تغب عن حسه قط هذه الحقيقة. إنما كان يخطئ في تحديد صفة الإله الحق، حتى تهديه الرسالات إلى الرؤية الصحيحة.. فأما الملحدون الجدد- أصحاب الاشتراكية العلمية!- فهم أمساخ شائهو الفطرة. بل إنهم إنما ينكرون الفطرة، ويعاندون ما يجدونه في أنفسهم من إلحاحها.. وعندما صعد أحدهم إلى الفضاء الجوي، ورأى ذلك المشهد الباهر- مشهد الأرض كرة معلقة في الفضاء- هتفت فطرته: ما الذي يمسكها هكذا في الفضاء؟ ولكنه حين هبط إلى الأرض، وتذكر إرهاب الدولة، قال: إنه لم يجد الله هناك! وكتم إلحاح فطرته وصراخها في أعماقه، أمام شيء من ملكوت السماوات والأرض!